كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونخلص من هذه القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم.. وهي في الحقيقة عبر شتى، لا عبرة واحدة.
وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية، قبل أن ننتقل من قصة نوح إلى قصة هود:
إن قوم نوح- عليه السلام هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم، ومدى إصرارهم على باطلهم، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح عليه السلام إليهم، وخلاصتها: التوحيد الخالص الذي يفرد الله سبحانه بالدينونة والعبودية؛ ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية..
إن قوم نوح هؤلاء.. هم ذرية آدم.. وآدم كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل وفي سورة البقرة كذلك قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها وهي المهمة التي خلقها الله لها وزوده بالكفايات والإستعدادات اللازمة لها بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها. وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق هو وزوجه وبنوه أن: {يتبع} ما يأتيه من هدى الله، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين.
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلمًا لله متبعًا هداه.. وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلًا بعد جيل؛ وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض؛ حيث لم تكن معها عقيدة أخرى! فإذا نحن رأينا قوم نوح وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله قد صاروا إلى هذه الجاهلية التي وصفتها القصة في هذه السورة فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعًا. وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم؛ وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية. تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله، واتباعه وحده، وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة.. ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدرًا من الاختيار هو مناط الابتلاء وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه، كما يملك أن ينحرف ولو قيد شعرة عن هدى الله إلى تعاليم غيره؛ فيجتاله الشيطان حتى يقذف به بعد أشواط- إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم النبي المسلم بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله.
وهذه الحقيقة.. حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده.. تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم علماء الأديان المقارنة وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورًا متاخرًا من أطوار العقيدة.
سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنيه للآلهة. ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح، وتأليه الشموس والكواكب.. إلى آخر ما تخبط فيه هذه البحوث التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة؛ يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر؛ وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان!
وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين؛ فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان وفق ذلك المنهج الموجه! من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الإعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام. وأن نوحًا عليه السلام واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه.. القائم على التوحيد المطلق.. وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية؛ وأن الرسل جميعًا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام.. القائم على التوحيد المطلق.. وإنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الإعتقاد إنما كان الترقي والتركيب والتوسع في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة. إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية حتى بعد انجراف الأجيال عنها ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها؛ حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني. أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعًا! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت، لأنها ليست نابعة من أفكار البشرومعلوماتها المترقية؛ إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه. فهي حق منذ اللحظة الأولى، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى..
هذا ما يقرره القرآن الكريم؛ ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال إذن لباحث مسلم وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام! أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة. تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا!
ومع أننا هنا في ظلال القرآن لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل.. ولكننا بنموذج واحد، نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية.. كتب الأستاذ العقاد في كتابه: الله في فصل أصل العقيدة ترقى الإنسان في العقائد. كما ترقى في العلوم والصناعات.
فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات. لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبًا وأطول طريقًا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما يفسر الألغاز والأحلام. ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام. ولعلها لا تزال.
فالرجوع إلى أصل الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد؛ وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرًا بعد عصر، وطورًا بعد طور. واسلوبًا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة. ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة. فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها. وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديدًا في الحكم على جوهر الدين. فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء، إنما يبحث عن محال.
كذلك كتب في فصل: أطوار العقيدة الإلهية في الكتاب نفسه: يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاث أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب:
وهى دور التعدد Polytheism.
ودور التمييز والترجيح Henotheism.
ودور الوحدانية Monotheism.
ففي دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أربابًا تعد بالعشرات، وقد تتجاوز العشرات إلى المئات. ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده، أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور، وتقبل الصلوات والقرابين.
وفى الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقى الأرباب على كثرتها، ويأخذ رب منها في البروز والرجحان على سائرها. إما لأنه رب القبيلة الكبرى التى تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة، وتعتمد عليها في شؤون الدفاع والمعاش، وإما لأنه يحقق لعباده جميعًا مطلبًا أعظم وألزم من سائر المطالب التى تحققها الأرباب المختلفة، كأن يكون رب المطر والإقليم في حاجة إليه، أو رب الزوابع والرياح وهى موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعة.
وفي الدور الثالث تتوحد الأمة، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة. ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها، ويحدث أيضًا أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلها، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع، والحاشية للملك المطاع.
ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلاّ بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة، ويتعذّر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية، فتصف الله بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته العالية، وكثيرًا ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة، وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية... إلخ.
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصًا من آراء علماء الدين المقارن ان البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم؛ ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية. وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال.. وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه: موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية، منذ أن اتخذ الإنسان ربًا، إلى أن عرف الله الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد.. والذي لا شك فيه أن الله سبحانه يقرر في كتابه الكريم، تقريرًا واضحًا جازمًا، شيئًا آخر غير ما يقرره صاحب كتاب: الله متأثرًا فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة.. وأن الذي يقرره الله سبحانه أن آدم وهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية، وعرف الدينونة لله وحده باتباع ما يتلقى منه وحده. وأنه عرّف بنيه بهذه العقيدة، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام دينًا، وإلا التوحيد عقيدة.. وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد.. ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد.. ودانت لشتى الأرباب الزائفة... حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد. وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعًا؛ ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون نزاهة التوحيد وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية! ولنا أن نجزم أن أجيالًا من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق.
قبل أن يطول عليهم الأمد، ويعودوا إلى الإنحراف عن التوحيد من جديد.. وأنه هكذا كان شأن كل رسول: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} والذي لا شك فيه أن هذا شيء، والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب: الله شيء آخر. وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها.. وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضًا، فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين!
وما من شك أنه حين يقرر الله سبحانه أمرًا يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع، ويقرر غيره أمرًا آخر مغايرًا له تمام المغايرة، فإن قول الله يكون أولى بالاتباع. بخاصة ممن يدافعون عن الإسلام؛ ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة.. وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الإعتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند الله، ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم؛ وأنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور ولم يجئ بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ، ولا في أية رسالة. كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله؛ وهي أنه وحي من الله، وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور! وليس وقفًا على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية!
ولعل هذه اللمحة المختصرة التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال تكشف لنا عن مدى الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية في أي جانب من جوانبها عن مصدر غير إسلامي. كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها. حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن الإسلام من أعدائه.: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح.. نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله!
إنها وقفة على مَعلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضًا.. وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق..
{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون...}
{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل...}
{وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}
{ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين}.. إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب؛ وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة.. إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد؛ كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح عليه السلام وهو يقول: {رب إن ابني من أهلي}: {يا نوح إنه ليس من أهلك} ثم بين له لماذا يكون ابنه.. ليس من أهله: {إنه عمل غير صالح}.. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: {فلا تسألن ما ليس لك به علم} فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك!
وهذا هو الْمَعْلَم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة... إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب؛ وآنًا هي الأرض والوطن، وآنًا هي القوم والعشيرة، وآنًا هي اللون واللغة، وآنًا هي الجنس والعنصر، وآنًا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنًا هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك. أو المصير المشترك.. وكلها تصورات جاهلية على تفرقها أو تجمعها تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي!
والمنهج الرباني القويم ممثلًا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير.. والْمَعْلَم الواضح البارز في مفرق الطريق..